حكمة التلقي
بين العقل والفكر الفلسفي

لطالما دفعتني هلوسة الأفكار، إلى خرق النظم العقلانية مدا وجزرا في بحر العوالم، بين التجرد والانطباع السائد في التلقي والحوار بين العقل والفكر، العقل اللّاقط ببديهيته المختزلة في التلقي والفكر الجامح للمجادلة والحوار، ومن هذه النقطة يتم تصنيف البشر عن غيرهم من الكائنات، وكذلك تصنيف البشر أنفسهم على بعض. لقد أثبت تاريخ الحياة البشرية أن من حكموا وسادوا، وكذالك من تمردوا وثاروا في سائر الأحقاب، هم أناس تصنفوا في النظم العقلانية والفكرية، فأخذوا الريادية والزعامة على غيرهم، وكما كان يطلق عليهم، ناس سبقوا عصرهم، فدان العصر لهم.
كانوا يلقبون بالحكماء وكانت تشد إليهم الرحال، لما لهم من بعد النظر، وكأنهم كانوا بحدسهم يقرءون كف القدر، فحكموا بلا ديوان، وتسلطنوا بلا تيجان، يقصدونهم الملوك والأسياد والأعيان، كانوا عقلاء العقل وحكماء الفكر، فما خلا أي بلاط ولا ديوان، ولا دار ندوة ولا صوان، لحكام الشرق القديم منهم ومن حسهم ورأيهم، لا قرار يصدر بأمر أي حاكم إلا بمشورتهم في كل المجالات.
إلى أن جاء عهد الإغريق الذي أحدث انقلابا في التلقي والحوار بين العقل والفكر، بظهور نمطية الحكيم طاليس الجديدة ما بين القرن السادس والرابع قبل الميلاد التي سماها بالفيلوسوفيا أي حب الحكمة ومنها اشتقت كلمة الفلسفة التي تطورت عبر مراحل الزمن، ويعتبر سقراط الذي اجتهد في فلسفته الإلحادية التي اصطدمت بمعارضة أهل الدين، وبعد صراعات عقلية وجدلية فكرية طاحنة، أدت إلى إدانة من طرف رجال الدين بالكفر والإلحاد فأعدم أمام الملء، وترك لمدرسته منهجية الفكر الفلسفي الذي صار على نهجها تلميذه أفلاطون الذي بدوره طور المفهوم الفلسفي التجردي في الجدلية الفكرية، بتنحي العقل كجوهر باطن، وسلطة الفكر المتحكم الظاهر، كاختزال الأشياء عقليا وإبرازها فكريا، كنظرية ديكارت التي تقول أنا أفكر أنا موجود.
هذه مقدمة لبرز ظاهرة الحكمة لذا الفكر الفلسفي خاصة والفلاسفة عامة، لأن الفكر الفلسفي عشوائي في تمرده، يفتقر إلى المنهجية الاستمرارية كسائر العلوم، حيت أن كل فيلسوف له منهجيته الخاصة ونظريته المتفردة، ومجرد من التبعية لأنه يرتكز على استقلالية الفكر الفردي، ولذا تجد كل فيلسوف ينطلق من ذاته بفكره وآرائه، خارجا عن منهجية الغير، وكثيرا ما تجد معظم الفلاسفة ينتقدون بعضهم، وتتضارب أفكارهم حسب فهمهم.
ولا يوجد في الفلسفة خط مستقيم،لأن كل واحد ينطلق من نظريته وزاويته، بيد ما أن الحكمة أصولها ثابتة وخيوطها مستقيمة، توثق وتورث، وتتطابق مع الفكر والعقل، وهو ما اتفق علية الأصوليون في استنباط الحكمة من الكتب المنزلة التي ورثوها عن الأنبياء، وجعلها قاعدة راسية لتحركات الإنسان أين ما كان وحل وارتحل، وانقياده بها في جميع أمور دينه ودنياه قولا وعملا، وعقيدة وعزما، وجعلها ظاهرة جلية في سلوكه الخاص والعام، والقيام بها كشعيرة دينية تعينه على التقرب إلى ربه ومولاه، وهذا المتفق علية إلى الآن، بعكس أن الفلسفة تنفي روابطها العقلية والروحية، وتقوم بالفكر المجرد، لذا تجدها ألحدت كل شيء عدا الفكر، كما أنها تتعارض مع الثوابت والأصول واليقين التام.
قد تكمن النظرية الفلسفية وتجدي في المسائل المادية الملموسة، في متطلبات الإنسان في حياته وخياراته وتدبيرها سياسيا واقتصاديا، لأنه صاحب القرار ووحده الذي له الاختيار، ويعتبر الفيلسوف حكيم ببعد نظره، وتوغله في قراءة الأفكار والاستنتاجات المادية المحضة التي تتعلق بمتطلبات احتياجات الإنسان العامة، والتلقي العقلي في الأشياء الملموسة والمحسوسة، أما في ما وراء العقل من الغيبيات الروحية التي لا تدرك إلا بالنقل ألتجريدي العقائدي، وبوصلة الفطرة السليمة في الإنسان الذي يولد عليها فلا مجال للفكر الفلسفي فيها، وكل ما جاء من أقاويل ونظريات الفلاسفة عنها فهو لغوا خواء وضربا من كلام الهرطقة الجدلية، التي نهت عنها كل الكتب السماوية، وزكى نهيها ما جاء في القرآن الكريم في قوله تعالى:
{هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}
[سورة آل عمران: الآية 66]
بقلم
محمد السوارتي الإدريسي
تعليقات
إرسال تعليق